توطئة وتقدمة
تبتلي الامم مثلما يبتلى الأفراد – بالخير والشر، قتنةً، وقد أبتلى السودان بالخير والشر فتنةً، فهو من أغنى بلاد العالم، وأفقرها في ذات الوقت، وشعبه من أكثر شعوب العالم وعياً وولعاً وشغفاً بالسياسة، وأكثرها اضطراباً بسبب سوءات السياسة!! وضمن هذا الإبتلاء، وفي إطار سنّة المدافعة، نشأت قوى حيّة نابضة بالوعي، محتمية بسياج فكري ومنهج عملي متّسق، بدأت في أربعينيات القرن الماضي، ضمن مجموعات وتيارات وأحزاب مختلفة التكوين والمناهج، بدأت قليلة العدد تنادي بالتغيير باسم الإسلام، ثم – بذات الروح – تطوّرت في شكلها وخطابها، واستمرّت في توسّع واندياح، من حركة احتجاجية مطلبيّة صغيرة، إلى قوّة سياسية كاسحة وأساسيّة، تؤثر بفعلها ووقعها في كافة أرجاء القطر، بل في كافة مناحي الحياة فيه، وانتقلت في تطوّرها من جماعة طلاب بالثانويات والجامعات، إلى جماهيري عريض، بمسميات وجبهات عديدة، باسم حركة التحرير الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق الإسلامي والاتجاه الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية، وآخرها مسمى الحركة الإسلامية، وفي إطار معادلة الصراع، في العهد الديمقراطي الأخير، حين تدخّل الجيش، وطلب من رئيس الوزراء منع التيار الإسلامي من ممارسة دوره السياسي عبر وزنه الانتخابي، فاستجاب، وطرد الجبهة الإسلاميّة من مجلس الوزراء، ولمّا كانت – ضمن معادلة الصراع المضطربة – تيارات عديدة تعمل داخل الجيش لتتعجّل باستلام السلطة "3 إنقلابات حزبية جاهزة وسط الجيش، وكلها تنوي تصفية الجبهة الإسلامية" ما كان من التيار الإسلامي إلا أن يتحرّك ضمن معادلة الصراع نفسها، مضطراً إلى ذلك "حيث كان منتصراً عبر صناديق الاقتراع"، فاستلم السلطة في 30 يونيو 1989م، وليقود التغيير لنهضة شاملة في البلاد، في التعليم والصحة والكهرباء والطرق والجسور والسدود والاستقرار والسلام وأسس الحكم، والاقتصاد والتنمية، وكافة قضايا البلاد المؤجلة، فانبرت الحركة الإسلامية لهذا التحدي الكبير، بوعي وصبر وحكمة وتجرّد، فخاضت كل الميادين بقوّة واقتدار، وضمن إستراتيجية التمرحل في إشتراك القوى السياسيّة كافة، انسحبت الحركة الإسلامية كجسم وهياكل منذ العام الثاني، ثم حلّت المجلس العسكري الذي كان يدير البلاد، وأنشأت حزباً قومياً يتسع للجميع، هو حزب المؤتمر الوطني، ثّم بدأت ترخي من قبضتها على مقاليد الأمور لصالح الآخرين، ولم تمض سنوات معدودة، حتى طرحت نفسها للإنتخابات، وأقرّت الدستور، وانداحت دائرة المشاركة لصالح القوى السياسيّة كافة، فاستجابت تنظيمات ورفضت أخرى، ولكن إستراتيجية التمرحل كانت مصممّة وصبورة، واستطاعت منذ العام 1996م أن تخترق بعض القوى المتمرّدة فتوقّع معها اتفاقات السلام، وبعض القوى المدنيّة المعارضة، فتوقّع معها اتفاقات المشاركة، ثمّ مضت إستراتيجية التمرحل بصبر وعزيمة، تكمل مشوارها لصالح التحوّل الديمقراطي الكبير، فأقرّت دستوراً من أفضل الدساتير في العام 1998م، بعده ازداد عدد الصحف المملوكة للأفراد الوتيارات المختلفة، وأنشئت المحكمة الدستوريّة لتتاح محاكمة الدولة في أعلى مستوياتها، وأنشئت مؤسسات لرد المظالم ومعالجة الآثار السالبة للتجربة، ثمّ حدث الاختراق الأكبر، بالاتفاق مع أكبر حزب معارض، "اتفاق جيبوتي مع حزب الأمّة في العام 1999م" ثمّ اتفاقاً مماثلاً مع الحزب الثاني "اتفاق جدة 2003م الحزب الاتحادي الديمقراطي" ثمّ
الاختراق الأكبر في إطفاء نيران أطول حرب في إفريقيا، وذلك ببرتوكول ميشاكوس 2003م ثمّ اتفاقيّة السلام الشامل مطلع عام 2005م واتفاقيّة سلام الشرق بأسمرا 2006م، كل هذا التحوّل، كان يمضي قدماً مع الإصلاح التنموي والاقتصادي غير المسبوق، بقيادة حزب أثبت كفاءته وجدارته، هو حزب المؤتمر الوطني.
مواصفات ومؤهلات المؤتمر الوطني
1. هو حزب ملك الشعب، لا تملكه بيوت معيّنة، ولا أفكار مستوردة، لا تقديس لزعامته، ولا تسلط لقيادته.
2. حزب اختبرته الأيام وامتحنته الشدائد، ورأى الناس وشهدوا، أنّه حزب ملك قراره، لا ترهبه التحدّيات ولا تثنى عزائمه الخطوب، يقف رمزه ورئيسه مواقف الشجعان، تسنده قيادات عجمت عودها الشدائد والابتلاءات.
3. وهو الحزب الأكثر تأهيلاً من حيث كثرة الكفاءات فيه، في كافة مستوياته.
4. والأكثر شوريّة وديمقراطية، وذلك بسبب قيامه على إرث قديم وتجارب ثرّة لقياداته المتمرّسة على الشورى والنديّة منذ أن كانوا طلاباً بالثانويات والجامعات، الأمر الذي وفّر لهم رصيداً عظيماً في العمل الشوري. وقد قام المؤتمر –منذ يومه الأول- على المؤسسيّة، فعقدت هيئة الشورى فيه والمكتب القيادي والمؤتمر العام، عقدت هذه المستويات مئات المؤتمرات والاجتماعات، في المركز والولايات، وليس لأنّه الحزب الحاكم، ولكن لأنّه يمثّل امتداداً لمنهجيّة ومؤسسيّة ضاربة في عمق التجربة.
5. هو الحزب الأقدر على معالجة قضايا السودان المعقّدة، فقد قدّم برهاناً علمياً شجاعاً، حيث انفجرت كل قضايا السودان المعقّدة، فقد قدّم برهاناً عملياً شجاعاً والمؤجلة في وجهه، فانبرى لها بأطقم وأتيام ذات قدرات عالية ومراس شديد وصبر دؤوب،، فأثيتت أرجلها في ميادين العمل كافة.
(أ) فالحرب المستعرة التي كادت تطرق أبواب الخرطوم، تصدّت لها بأتيام المفاوضين وكتائب المجاهدين، برغم الحشود الكثيفة والدعم غير المحدود من دوائر إقليميّة ودوليّة عاتية، لكن أثبتت التجربة مراس وقدرات هذا الحزب، حتى أجبرهم جميعاً للجنوح للسلم (آخرها أثناء التفاوض، حين غدرت الحركة وأسقطت مدينة توريت فسحب المؤتمر وفده وأعلن أنّه لن يفاوض ما لم يستعيد المدينة، وقد فعل..)
(ب) وفي ميدان أسس ونظم الحكم، كان للمؤتمر الوطني رؤى سابقة سبّاقة وشجاعة، عبر امتداد تجارب قيادته، منذ مؤتمر المائدة المستديرة، وكان يدرك أنّ السودان لا يمكن أن يحكم مركزياً، وأنّ الأطراف القربية والنائية، لا بد أن تأخذ حقوقها كاملة، فقسّمت البلاد إلى تسعة ولايات، ثمّ إلى ست وعشرين ولاية، وأعطت كل ولاية صلاحيات الحكم في مستوياته البرلمانية "التشريعيّة والرقابيّة" وفي مستويات الحكم الفعلي التنفيذي، عبر مجالس وزراء ومعتمديات ووحدات إداريّة أصغر، كل ذلك ليمارس أبناء الشعب حكم أنفسهم، وليكونوا لصيقين بأهلهم، وليواجهوا قضايا التنمية المؤجلة منذ فجر الاستقلال، وبرغم شنشنة الشانئين، وطنطنة الناقدين، إلا أنّ الأيام أثبتت سلامة الرؤية وصواب المنهج.
(ج) في ميدان الاقتصاد، بعد أن كانت السمة الواضحة والثابتة هى الركود والجمود والنمو الاقتصادي بالسالب "3,2%" ويعتمد بنسبة 80% على المعونة والتمويل بالعجز، ويفتقد للعملات الأجنبيّة مما أدى لانعدام الثقة وعدم قبول التعهدات الصادرة من البنوك السودانيّة، وعمل التضخّم مع الكساد على تزييف الحياة الاقتصاديّة، فلم تكن الأرقام تعبّر عن واقع الاقتصاد المتدهور للبلاد، أثبتت أطقم الإصلاح الاقتصادي بالمؤتمر الوطني قدرات واضحة، وشجاعة فائقة، منذ الأسابيع الأولى "المؤتمر الاقتصادي الأول في أكتوبر 1989م" واستطاعت أن تشخّص الأدواء بوضوح وصراحة، وتقدّم الدواء بعمليّة وشجاعة، فصارحت الشعب الذي امتلأ بها ثقة، وبادلهم الصبر صبراً والإخلاص إخلاصاً، لوم يكترث لخطاب المعارضة التي يعرفها ويعرف حقيقة إسهامها السلبي حين كانت على سدّة الحكم، فصبر ليعبر به هذا الكادر المقتدر،.. وبحمد الله، استطاعت المعالجات أن تثبت نجاحاتها، من إلغاء احتكار الدولة للحياة الاقتصاديّة، وتطبيق الخصخصة بصورة علميّة مدروسة – زايد المزايدون بالإشاعات وأثبتت نجاحها – ومراجعة كافة السياسات الاقتصاديّة والماليّة، ومعالجة الاختلال الاقتصادي الذي لازم البلاد في الادخار والاستثمار، والصادرات والواردات والإيرادات العامة والإنفاق، ومعادلة العرض والطلب، والاستقطاب الداخلي والخارجي، ومراجعة القوانين الماليّة والمحاسبيّة، وقوانين الاستثمار، وبعد مرحلة المعالجة الشاقة في "البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي" بدأت السياسات الاقتصاديّة بمجهودات صادقة تؤتي أكلها في المراحل التالية، فتحوّل الاقتصاد من السالب إلى النمو المستدام –والحمد لله- وأصبح يعتمد على الموارد الذاتيّة في تمويل الموازنة وتغطية احتياجات البلاد، وانتفت السوق الموازية الضارة "السوق السوداء" وتحققت الوفرة، حيث راد العرض ولبى حاجه الطلب، فانتفت –بحمد الله- صفوف الذل والإذلال والمسغبة، وأصبح السودان –بحمد الله- دولة نفطيّة بصدق وعزيمة وإخلاص هذا الكادر، الذي استطاع أن يقتحم الصعاب ويقبل التحدي، بإنشاء أكبر خط أنابيب طوله 1610 كيلومترا خلال زمن قياسي (11 شهراً) ليتم التكرير والتصدير للنفط السوداني، وكان هذا حلماً بعيداً للشعب الصابر المغلوب على أمره، وزادت المساحة المزروعة ضعف ماكانت عليه طيلة سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال، من 19 مليون فدان إلى أكثر من 41 مليون فدان – دون أن تحسب الزيادات في توجه النفرة الزراعيّة الأخيرة – وأصبحت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي حوالي 40% ومساهمة القطاع الصناعي بعد دخول النفط حوالي 27%، وتضاعف الإنتاج في الكهرباء أضعاف ما أنتج طيلة سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال، من أقل من 400 ميقواط إلى أكثر من 800 ميقواط، والعمل يجري حالياً في محطّة كوستي (500 ميقواط) ومحطّة الفولة (500 ميقواط) ومحطّة محمود شريف (200ميقواط)، ومحطّة (قِّري) وسيدخل سد مروي وحده (1250 ميقواط) إن شاء الله، فضلاً عن 10 سدود أخرى انعقد العزم على إنشائها بمشيئة الله تعالى، وارتفع متوسط دخل الفرد أكثر من خمسة أضعاف ما كان عليه، من حوالي 200 دولار قبل الإنقاذ إلى ما يفوق ال1000 دولار، وارتفع حجم الموازنة من 800 مليون دولار في عام 1989م (650 مليون دولار معونة خارجيّة) إلى أكثر من 13 مليار دولار، واستقرّ الاقتصاد السوداني معافى، بعد الركود والجمود والنمو السالب "3,2% تحت الصفر" استقرّ على نمو متوسط وصل 10% "بفضل الله، ورحمته، وبنجاح وصبر وشجاعة وقدرة الكادر الذي بذل جهوداً مخلصة في هذا الجانب المهم" فاستقامت علاقات صحيحة مع مؤسسات التمويل الدوليّة والصناديق العربيّة، واستطاع الاقتصاد السوداني أن يستقطب مليارات الدولارات بصورة لفتت انتباه المؤسسات المراقبة والمحايدة والشامتة معاً، فظلّ مابين ثالث ورابع دولة عربيّة في الجذب الاستثماري والحمد لله.
(د) في ميدان التنمية استطاع المؤتمر –بنصر الله تعالى وبما فيه من كادر وماله من خبرة وقدرة- أن يوظّف هذه النجاحات الاقتصاديّة لصالح التنمية، فأُنشئت 26 جامعة و30 كليّة علميّة ومعهداً عالياً، بدلاً عن 4 جامعات فقط قبل الإنقاذ، وأصبحت الجامعات السودانية تستوعب أكثر من 140 ألف طالباً، بدلاً عن 8 آلاف طالب فقط قبل الإنقاذ، وهكذا نجحت ثورة التعليم العالي التي بدأت منذ بدايتها تستكمل نواقصها وتستوعب آلاف الطلاب الذين كانت ترمي بهم سنوات التيه في خانة الفاقد وفي أحضان الجهل، ودبّت الروح في كثير من المصانع المتعطّلة منذ سنوات عديدة، وقامت مصانع جديدة، وأخرى سيتدفق إنتاجها الغزير خلال أشهر "أسمنت مثلاً" وأنشئت الجسور وعبّدت الطرق، وتضاعف إجمالي الطرق المعبّدة ضعف ما كانت عليه منذ فجر الاستقلال (من 2436 كيلزمترا قبل الانقاذ إلى أكثر من 7 آلاف كيلومتر) وفي الخرطوم وحدها أنشئت مجموعة من الكباري المهمّة (كبري الجريف المنشيّة) (كبري المك نمر) (كبري توتي) والعمل جارٍ في (كبري الحلفاية الحتانة) و(كبري العزوزاب) وذلك بالتزامن مع المطار الدولي الجديد بأحدث المواصفات الفنية والمعماريّة، وتمددت التنمية للريف المغلوب المتباكى عليه كذباً وزوراً باسم التهميش، فأصبح لأول مرة يرى المنشآت التعليمية والصحيّة والخدميّة ويتمتّع بالكهرباء، وتصله الطرق. وفي مجال الدفاع، استطاعت تجربة المؤتمر أن تقفز بتطوير قدرات القوات المسلّحة الصابرة، أكثر من مائة ضعف عمّا كانت عليه، ولأول مرة تكتفي البلاد في احتياجاتها الدفاعية، من ملبوسات الجيش، إلى احتياجات التسلح، من زخائر ورشاشات ومدافع ودبابات ووقود الطائرات، كلّها صناعة سودانيّة خالصة، حتى مجال صناعة الطائرات، دخلته تجربة المؤتمر واستطاعت أن تنجز صناعة طائرات بدون طيّار، وستنجز مصانع "الأبابيل" الطائرات وتمّدها حقاً مستحقاً لهذه المؤسسة المهمّة التي أهملتها سنوات التيه وجعلتها تجابه مصائرها القاسية في نكران وإهمال وجحود وتخبّط إداري. كما قامت ضمن النهضة التنمويّة، وحدة جبّارة للسدود، تحمل العزيمة والتوكّل، فاستطاعت أن تنجز المعجزة في الريف وفي السودان كلّه، بإنشاء سد مروي، الذي سيعطي خيره وفيضه لكل السودان ولجواره كذلك، بتكلفة تقارب ملياري دولار، وفي مجال الخدمة التنمويّة والإسكان، استطاعت تجربة المؤتمر الوطني –بحمد الله وفضله- أن تنجز حلاً شاملاً لكل مشكلة الإسكان المؤجّلة، فنفذت خططاً إسكانية تراكم عليها الغبار منذ ما بعد الاستقلال، وضاعفت الخطط الإسكانية بأكثر من عشرة أضعاف، وفي ذات المنحى، استطاعت أن تجذب الاستثمار العربي في المجال العمراني، فتدفق الاستثمار الإماراتي في "واحة الخرطوم" التي اكتملت والحمد لله بعد تعثّر في التمويل، لتمثّل وجهاّ عمرانياً جديداً للخرطوم، كما انتهت الدراسات وبدأت مراحل تنفيذ مشروع المقرن "السنط" الذي سيغيّر من العمران البائس في العاصمة ويُعطي منظراً جمالياً مدهشاً على شواطئ الخرطوم، كما تمّ التعاقد مع الجانب القطري للاستثمار العمراني على شاطئ الخرطوم بحري، كما شرعت شركة كويتيّة في إنشاء مدينة النور على شواطئ أمدرمان بتكلفة مليار دولار.. فضلاً عن مشروع الإسكان والإعمار الذي رصدت له الدولة أيضاً مليار دولار.. كما أُنشئت مدينة صناعيّة لصناعة السيارات والجرارات بكافة الأشكال، بما يشبه الحلم، وتدفق إنتاجها، فقفزت الصناعة السودانيّة لأول مرّة مثل هذه القفزات الكبيرة، ففي لحظة واحدة استعرض رئيس البلاد ورمز هذا التغيير حوالي 3000 جراراً زراعياً صنع في السودان ضمن انطلاقة النفرة الزراعيّة المعلنة مؤخراً،.. وهكذا يصعب حصر المنجزات في مجالات التنمية والخدمات التنموية.
نضج ورشد سياسي
المراقب المنصف الحصيف، لا يملك غير التسليم بالنضج والرشد الذي تحلّى به المؤتمر الوطني في تجربته، رآه الناس يرسل أتيام التفاوض في عواصم الدنيا المختلفة، يستجدي خصومه لكمة سواء، والخصوم، من فرط طيشهم وغرورهم، يظنون أنّ ذلك ضعفاً، وكان المؤتمر ولا يزال قوياً، كان يفاوض من باب المسؤوليّة، ولم يشاهد المراقب المنصف الحصيف تجارباً مماثلة في استجداء الخصوم كما فعل المؤتمر، ولم ير حزباً حاكماً يستلطف ويستميل المتمردين عليه كما فعل المؤتمر الوطني، في ذات الوقت الذي يواجههم فيه في الميدان بشجاعة عزّ مثيلها إلا في التاريخ الإسلامي القديم.. ولم يشاهد المراقب المنصف الحصيف، حزباً حاكماً يترك نصف كراسي الحكم قبل صناديق الاقتراع، اللهم إلا تجربة سوار الذهب الذي تركها كاملةً وفق منطق آخر وظروف مختلفة، ولم ير رجلاً في الحكم يغادر كرسيه ليجلس عليه خصمه كما فعل الأستاذان مهدي إبراهيم وعلي عثمان محمّد طه!! وبعد أن صبر المؤتمر الوطني على مراوغة خصومه، استطاع –عبر أتيامه التفاوضيّة- أن يأتي بهم جميعاً إلى الداخل، عبر اتفاقات مختلفة، ثمّ صبر وصابر على أذاهم وعدائهم بالداخل، وظلّ يطوف عليهم جميعاً بالحسنى، في حوارات كثيفة لخلق روح بنّاءة رشيدة، ولخلق مشترك وطني، وقد قطع –والحمد لله- شوطاً كبيراً لتعزيز لغة الحوار وتغليبها وتثبيتها، لأنّ البلاد تستقبل مرحلة جديدة، ينبغي أن يسود فيها التسليم بأسس مشتركة ومنطلقات وطنيّة موحّدة، ولن يكون ذلك إلا بالتراضي السياسي، وهكذا يحمد له هذا الرشد في المسلك والممارسة.
وسطيّة واعتدال
ولأنه وريث حركة إسلاميّة ناضجة واعية خاطبت القضايا المعاصرة منذ وقت مبكّر، لأنّه كذلك، استطاع المؤتمر الوطني أن يقدّم تجربة حكم إسلامي مرنة، فائقة المرونة، متصالحة مع قيم الشعب وعقيدته ووجدانه الحضاري، فلم تأتي عليه بلغة المعلّم أو بسياطة المحتسبين، أنّما عملت على نفض الغبار وتبني الشعارات وترك التطبيق مشتركاً، ترغبياً لا ترهبياً، وهذا جعل الخصوم يتهكمون عن ماهيّة المشروع الحضاري الذي تطلقه الدولة، متغافلين عن عمد، الطفرة الهائلة التي حدثت في تجديد الإرث الحضاري للأمّة، واستلهام نهضتها عبره، وشمولية الطرح الإسلامي الذي تبثّه التجربة، من تعظيم الشعائر إلى إشاعة التكافل، فقد تضاعفت أعداد المساجد أضعافاً مضاعفة، وتضاعفت معها صفوف المصلين والمساجد والزوايا، في الميادين وأماكن العمل في المؤسسات والشركات والوزارات، وأُشيع صيام التطوّع والإقبال على المنهج والإفطارات الجماعيّة، وقد قامت مئات الجمعيات للقرآن الكريم تقود النشاط التربوي والروحي في المجتمع بكافة قطاعاته وفصائله، وفي الزكاة قدّمت الدولة تجربة فريدة غير مسبوقة على الإطلاق في القرون العشرة الأخيرة، وقد قامت مؤسسة عملاقة، يشرف عليها المجلس الأعلى لأمناء الزكاة، الذي يتكون من خبرات وتخصصات فقهية واجتماعية متنوعة، يجتمع كل ثلاثة أشهر، يراقب الأداء ويعالج الأخطاء، فقامت تجربة عملاقة بحق، تمت فيها كفالة آلاف الأسر وتمت فيها إعالة آلاف الأرامل والعجزة والأيتام، وهي تجربة موثّقة ليس من مجال للمزايدة عليها، فيها تسليم لآلاف المشاريع المنتجة، تتحوّل فيها الأسر من الفقر إلى الغنى، وهي تجربة تجد الإشادة والثناء في كل مناسبات ومؤتمرات العالم الإسلامي. ثمّ يأتي من يقل لك: أين هو المشروع الحضاري؟ وحسناً فعلت التجربة وهي تقدّم المرونة والوسيطة والاعتدال، فلم تشهر السياط والتخويف لفرض المظهر الإسلامي أو إجبار الناس على الصلوات وغيرها، ولم تنتهج إشاعة التحريم في المختلف في تحريمه، مثل الفنون وغيرها، كما اعتمدت منهج الرسول صلى الله عليه وسلّم في تحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقوقها، بعكس ماساد باسم الدين في تحجيمه اوحرمانها، وكل ذلك بدل أن يجعل الخصوم يعترفون ويقرون بفضل الحركة الإسلامية في تقديم رؤية إسلاميّة حضارية معتدلة قابلة للتطبيق، عبر المؤتمر الوطني، جعلوا يكيلون لها السباب بوعي وبغير وعي، ولكن السب والشتم –أسلوب العاجزين- لا يثني أو يغيّر منهج الواثقين.
إشراقات لا يقدّمها إلا المؤتمر الوطني
لا تزال الثورة المهدّية ملهمة بتفاصيلها وأدبياتها وسياقاتها المختلفة مخيلة الشعب السوداني، قادها رجل، التف حوله الناس، من أقصاها إلى أقصاها، استطاع أن يصنع معجزة في توحيد الناس وتحقيق الانتصار، ولم يأت ما يشابه هذه التجربة إلا في تجربة المؤتمر الوطني، حيث استطاع أن يوظّف هذا الإرث الذي يفخر به الشعب، واستطاع أن يجابه به مشكلة معقّدة، في واجهتها أبناء الوطن الواحد، ومن خلفها كل جبروت وطغيان ولوبيات العالم الغربي المعاصر!! عدّةً وعتاداً، ولم يكن المؤسسة العسكريّة المتهالكة بالإهمال والنسيان من قدرة ولا حيلة، استطاعت الإنقاذ، أن تستخرج هذا الإرث العظيم وهذا المكنون الصادق، الذي يطابق صدقاً في أفئدة القادة أصحاب التغيير، فالتقى الصدق بالصدق، وصنع التلاقي ملاحم مبهرة، رأى الناس الأمهات يودّعن أبنائهنّ بالزغرودة، ويستقبلن نبأ استشهاد أبنائهنّ بالتهليل والتكبير والتحميد، تدفقت الجموع المتقاطرة، طوعاً وصدقاً وشجاعة، وهو ما لم يكن يخطر ببال، وهو ما لم يمكن حدوثه إلا بالقيادة الصادقة ذات التجربة المخلصة الراشدة.. رأينا الطلاب والمزارعين والرعاة والقبائل والوزراء والمسؤولين، كلّهم يلبون نداء الله والوطن، بتجرّد عزّ مثيله، لقد كانت ملاحم نادرة، ترجمت وملأت الشعار الأجوف الذي كان يملأه الكذب السياسي حين تطلق الاحزاب هتافها "شعب واحد جيش واحد" لم ير الناس وزيراً يقال من وزارته ويعين في مؤسسة كانت تتبع لوزارته فيوافق كما فعل الدكتور محمد أحمد عمر، ولم يرى الناس وزيراً مقاتلاً متطوعاً كما فعل الشهيد محمد أحمد عمر والشهيد دكتور محمود شريف، والدكتور أحمد البشير الحسن والدكتور مصطفى الطيّب والقائمة الطويلة التي يتربّع فيها الشهيد الزبير والشهيد إبراهيم شمس الدين وبقيّة المخلصين.
متبوع لا تابع
أثبت المؤتمر الوطني –بكوادره المقتدره وتراكم الخبرة والمؤسسية فيه- أنّه حزب متبوع لا تابع، قائد لا منقاد، يترك مساحة واسعة لخصومه يقتاتون من خطاياه وأخطائه، ليس في يدهم شئ يفعلونه، وليس عندهم ما يقولونه، وليس لهم القدرة على الفعل، فقد جرّبهم الناس واختبروا قدراتهم، وأن من عجزوا عن حل مشكلاتهم التنظيميّة (بعض الأحزاب لم تعقد مؤتمراتها العامة لأكثر من 40 سنة!!) هم أعجز عن ممارسة الديمقراطيّة المدّعاة، وأنّ من عجزوا عن تخطيط حي عشوائي في قلب العاصمة، هم أعجز عن تخطيط وهيكلة الاقتصاد وتنمية البلاد، كما أنّ سنوات حكم المؤتمر كشفت زيف وطنيّتهم، وكذب إخلاصهم لوطنهم، رآهم الناس يتنقلون من استجداء خارجي لاستجداء خارجي أكثر وقاحة وأبلغ في القبح والذنب والخطيئة، فأمين التجمّع المعارض هو من دلّ على ضرب مصنع الأدوية، بل وطالب بضرب قلعة صناعة السيارات، مفخرة الصناعة السودانيّة!! ورآهم الناس يرسلون عناصرهم من معسكراتهم ينهبون طريق الخرطوم بورتسودان، يوقفون البصات ويجبرون الركّاب على تسليم ممتلكاتهم!! ورآهم الناس يرسلون عناصرهم من معسكراتهم يخربون أنبوب الصادر من النفط السوداني!! وحين فشل الأجنبي بكل جبروته، وفشلوا هم بأفعالهم المراهقة والصبيانيّة، انكبوا يستثمرون سماحة النظام، والقدر الكبير من الحريات المكفولة، فانكبوا يسودون الصحف، بكل منقصة في المؤتمر، وبكل مسلبة، بالحق وبالباطل، فكشفوا عن قصور همّتهم، وضحالة فكرهم، وكساد بضاعتهم، فليس لهم من فعل أو برنامج، إنما الفعل والبرامج للمؤتمر، أمّا هُم، فعليهم فقط التعليق السالب، في حال الخطأ وفي حال الصواب، ثمّ انكبوا في محاور أخرى، يؤلبون ضد التنمية، في سد مروي وفي سد كجبار، وستثبت الأيام القادمة وتؤكد صدق ما أثبتته سابقاً، من خوائهم الفكري وطيشهم السياسي، وقد أثبت المؤتمر فعلياً، أنّه لا يشغل نفسه بالسيل الأسود من النقد والشتم الذي يتعرّض له، وبرغم الكم الكبير من الكادر الإعلامي المؤهل، إلا أنّ المؤتمر أثبت أنّه منشغل بالفعل لا بردود الأفعال، وأنّه حزب متبوع لا تابع، وقائد لا منقاد، وأنّه يبني رصيده الشعبي من خلال الممارسة، ومن خلال العمل والتصاقه بالجماهير، لا من خلال الشتم أو الشتم المضاد.
مؤشرات الفرز السياسي
تعتبر المرحلة المقبلة على أرض العمل العام، مرحلة خصبة، حبلى بالنتائج والمفاجآت، في العمل السياسي على وجه التحديد، فقد حدثت في السنوات الماضية متغيرات عديدة، غيّرت من خريطة الولاءات السياسيّة، وانحسر –لأسباب داخليّة وعالميّة- المد الأيدلوجي، ولأسباب متداخلة –أهمها زيادة الوعي- زهدت الجماهير في التمحور حول الزعامات الاجتماعيّة، ولأسباب أخرى –عمليّة- أحدثت تجربة الحكم الحاليّة "الإنقاذ" تحوّلت جذريّة في خريطة التعاطي الثقافي والفرز الحضاري، ذلك حينما جعلت –التجربة الحاليّة- القضايا كلها في محك الاختبار، في الاقتصاد والتنمية والحرب والسلام والفدراليّة والعمران وقضايا الشباب والمرأة والتعليم، وقضايا الإستراتيجية والنظر المستقبلي، ما من شئ وإلا ووضعته الإنقاذ في محك التساؤل والإجابة، فأعطت إجابات كثيفة شافية لمعظم –إن لم نقل كل- قضايا السودان التي كانت مؤجلة، وكل هذا –بلا شك- عمل على تغيير الخريطة الساسيّة بشكل كبير جداً، وكل هذا –بكل تأكيد- سيجعل المؤتمر في المرحلة المقبلة سيّداً في خيارات الفرز لدى شعب ظلّ يتفاعل معه ويبادله السند والعضد.
عبقريّة الفكرة وفلسفة الانتماء
بعد أن انحسار المد الأيدولوجي يميناً ويساراً، وبعد أن زهد الكثيرون في أحزابهم وتنظيماتهم، وبعد أن أثبتت فكرة المؤتمر الوطني نجاحها كمنطقة وسط تعالج حالة (توهان الولاء السياسي) أصبح حريّاً بمن يتململ في حزبه أو لم يجد ما يغريه في الأحزاب الأخرى، أن ينضم لحزب اختبرته التجربة فأثبت كفاءة وقدرة ونجاحاً، استطاع أن يقدّم نجاحاته بتفوق في الاقتصاد الذي أصبح رائداً بعد أن كان مشلولاً!! وفي التنمية التي أصبحت متمددة شاهقة البنيان بعد أن كانت تقليديّة شحيحة أو معدومة!! وفي الصناعة التي أصبحت فخراً وتطوراً وقفزاً في سمائها البعيد، في النفط وفي صناعة السيارات والطائرات، بعد أن كانت مجرّد أماني وأحلام!! وغير هذه الميادين في التعليم والصحّة والطرق والجسور والسدود وغيرها، فإن الفكرة نفسها تعتبر إنجازاً قائماً بذاته.. نائب رئيس المؤتمر من جنوب السودان، يعتنق دين آخر غير دين رئيسه.. وفي القيادة من جاء من خلفيّة يساريّة، ومن جاء بخلفيّة صوفيّة، ومن جاء بخلفيّة وسطيّة الإسلام ومن جاء بخلفيّة سلفيّة، ومن كان قائداً علمانياً أو اتحادياً، أو كان قائداً في حزب الأمّة، وهكذا، استطاعت المنطقة الوسط التي أنشأها المؤتمر في الولاء السياسي أن تنصهر فيها مشارب فكريّة مختلفة، فالمؤتمر الوطني حزب هدفه السودان، ومنهجه الرشد والاعتدال والمرونة، وغايته التنمية في كل المناحي.. قياداته وكوادره وعضويّته، من مشارب فكريّة وقبليّة وجغرافيّة مختلفة.. وهذا هو سر الإقبال عليه، فالأيدلوجيات قد ولّي زمانها، كما أنّ الانتماء للبيوت أو الزعامات الاجتماعيّة، ماعاد مقنعاً مع ازدياد العلم والوعي..
إذن بالمؤتمر الوطني هو ملك الجماعير بشتى مشاربها ومنطلقاتها، هو يدُ الشعب، ومفخرته، ومن الواجب أن نشكر فصائل وطنيّة مقدّرة، لم تستطيع مباركة عشوائيّة تنظيماتها وتسلّط قياداتها وتخبّط سياساتها، فاستجابت لنداء الحكمة وواجب الوطن، فبدأت تحالفاتها مع المؤتمر منذ منتصف التسعينيات، فبذلت جهوداً مخلصةً وشاركت المؤتمر في أعمال التنمية وبناء التحوّل الديمقراطي. كما أنّ الواجب يقتضي كذلك أن نشكر الحركة الإسلامية التي أهدت التاريخ السياسي هذا الحزب العبقري العملاق ليكون ملكاً للجميع.
تبتلي الامم مثلما يبتلى الأفراد – بالخير والشر، قتنةً، وقد أبتلى السودان بالخير والشر فتنةً، فهو من أغنى بلاد العالم، وأفقرها في ذات الوقت، وشعبه من أكثر شعوب العالم وعياً وولعاً وشغفاً بالسياسة، وأكثرها اضطراباً بسبب سوءات السياسة!! وضمن هذا الإبتلاء، وفي إطار سنّة المدافعة، نشأت قوى حيّة نابضة بالوعي، محتمية بسياج فكري ومنهج عملي متّسق، بدأت في أربعينيات القرن الماضي، ضمن مجموعات وتيارات وأحزاب مختلفة التكوين والمناهج، بدأت قليلة العدد تنادي بالتغيير باسم الإسلام، ثم – بذات الروح – تطوّرت في شكلها وخطابها، واستمرّت في توسّع واندياح، من حركة احتجاجية مطلبيّة صغيرة، إلى قوّة سياسية كاسحة وأساسيّة، تؤثر بفعلها ووقعها في كافة أرجاء القطر، بل في كافة مناحي الحياة فيه، وانتقلت في تطوّرها من جماعة طلاب بالثانويات والجامعات، إلى جماهيري عريض، بمسميات وجبهات عديدة، باسم حركة التحرير الإسلامي وجماعة الإخوان المسلمين وجبهة الميثاق الإسلامي والاتجاه الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية، وآخرها مسمى الحركة الإسلامية، وفي إطار معادلة الصراع، في العهد الديمقراطي الأخير، حين تدخّل الجيش، وطلب من رئيس الوزراء منع التيار الإسلامي من ممارسة دوره السياسي عبر وزنه الانتخابي، فاستجاب، وطرد الجبهة الإسلاميّة من مجلس الوزراء، ولمّا كانت – ضمن معادلة الصراع المضطربة – تيارات عديدة تعمل داخل الجيش لتتعجّل باستلام السلطة "3 إنقلابات حزبية جاهزة وسط الجيش، وكلها تنوي تصفية الجبهة الإسلامية" ما كان من التيار الإسلامي إلا أن يتحرّك ضمن معادلة الصراع نفسها، مضطراً إلى ذلك "حيث كان منتصراً عبر صناديق الاقتراع"، فاستلم السلطة في 30 يونيو 1989م، وليقود التغيير لنهضة شاملة في البلاد، في التعليم والصحة والكهرباء والطرق والجسور والسدود والاستقرار والسلام وأسس الحكم، والاقتصاد والتنمية، وكافة قضايا البلاد المؤجلة، فانبرت الحركة الإسلامية لهذا التحدي الكبير، بوعي وصبر وحكمة وتجرّد، فخاضت كل الميادين بقوّة واقتدار، وضمن إستراتيجية التمرحل في إشتراك القوى السياسيّة كافة، انسحبت الحركة الإسلامية كجسم وهياكل منذ العام الثاني، ثم حلّت المجلس العسكري الذي كان يدير البلاد، وأنشأت حزباً قومياً يتسع للجميع، هو حزب المؤتمر الوطني، ثّم بدأت ترخي من قبضتها على مقاليد الأمور لصالح الآخرين، ولم تمض سنوات معدودة، حتى طرحت نفسها للإنتخابات، وأقرّت الدستور، وانداحت دائرة المشاركة لصالح القوى السياسيّة كافة، فاستجابت تنظيمات ورفضت أخرى، ولكن إستراتيجية التمرحل كانت مصممّة وصبورة، واستطاعت منذ العام 1996م أن تخترق بعض القوى المتمرّدة فتوقّع معها اتفاقات السلام، وبعض القوى المدنيّة المعارضة، فتوقّع معها اتفاقات المشاركة، ثمّ مضت إستراتيجية التمرحل بصبر وعزيمة، تكمل مشوارها لصالح التحوّل الديمقراطي الكبير، فأقرّت دستوراً من أفضل الدساتير في العام 1998م، بعده ازداد عدد الصحف المملوكة للأفراد الوتيارات المختلفة، وأنشئت المحكمة الدستوريّة لتتاح محاكمة الدولة في أعلى مستوياتها، وأنشئت مؤسسات لرد المظالم ومعالجة الآثار السالبة للتجربة، ثمّ حدث الاختراق الأكبر، بالاتفاق مع أكبر حزب معارض، "اتفاق جيبوتي مع حزب الأمّة في العام 1999م" ثمّ اتفاقاً مماثلاً مع الحزب الثاني "اتفاق جدة 2003م الحزب الاتحادي الديمقراطي" ثمّ
الاختراق الأكبر في إطفاء نيران أطول حرب في إفريقيا، وذلك ببرتوكول ميشاكوس 2003م ثمّ اتفاقيّة السلام الشامل مطلع عام 2005م واتفاقيّة سلام الشرق بأسمرا 2006م، كل هذا التحوّل، كان يمضي قدماً مع الإصلاح التنموي والاقتصادي غير المسبوق، بقيادة حزب أثبت كفاءته وجدارته، هو حزب المؤتمر الوطني.
مواصفات ومؤهلات المؤتمر الوطني
1. هو حزب ملك الشعب، لا تملكه بيوت معيّنة، ولا أفكار مستوردة، لا تقديس لزعامته، ولا تسلط لقيادته.
2. حزب اختبرته الأيام وامتحنته الشدائد، ورأى الناس وشهدوا، أنّه حزب ملك قراره، لا ترهبه التحدّيات ولا تثنى عزائمه الخطوب، يقف رمزه ورئيسه مواقف الشجعان، تسنده قيادات عجمت عودها الشدائد والابتلاءات.
3. وهو الحزب الأكثر تأهيلاً من حيث كثرة الكفاءات فيه، في كافة مستوياته.
4. والأكثر شوريّة وديمقراطية، وذلك بسبب قيامه على إرث قديم وتجارب ثرّة لقياداته المتمرّسة على الشورى والنديّة منذ أن كانوا طلاباً بالثانويات والجامعات، الأمر الذي وفّر لهم رصيداً عظيماً في العمل الشوري. وقد قام المؤتمر –منذ يومه الأول- على المؤسسيّة، فعقدت هيئة الشورى فيه والمكتب القيادي والمؤتمر العام، عقدت هذه المستويات مئات المؤتمرات والاجتماعات، في المركز والولايات، وليس لأنّه الحزب الحاكم، ولكن لأنّه يمثّل امتداداً لمنهجيّة ومؤسسيّة ضاربة في عمق التجربة.
5. هو الحزب الأقدر على معالجة قضايا السودان المعقّدة، فقد قدّم برهاناً علمياً شجاعاً، حيث انفجرت كل قضايا السودان المعقّدة، فقد قدّم برهاناً عملياً شجاعاً والمؤجلة في وجهه، فانبرى لها بأطقم وأتيام ذات قدرات عالية ومراس شديد وصبر دؤوب،، فأثيتت أرجلها في ميادين العمل كافة.
(أ) فالحرب المستعرة التي كادت تطرق أبواب الخرطوم، تصدّت لها بأتيام المفاوضين وكتائب المجاهدين، برغم الحشود الكثيفة والدعم غير المحدود من دوائر إقليميّة ودوليّة عاتية، لكن أثبتت التجربة مراس وقدرات هذا الحزب، حتى أجبرهم جميعاً للجنوح للسلم (آخرها أثناء التفاوض، حين غدرت الحركة وأسقطت مدينة توريت فسحب المؤتمر وفده وأعلن أنّه لن يفاوض ما لم يستعيد المدينة، وقد فعل..)
(ب) وفي ميدان أسس ونظم الحكم، كان للمؤتمر الوطني رؤى سابقة سبّاقة وشجاعة، عبر امتداد تجارب قيادته، منذ مؤتمر المائدة المستديرة، وكان يدرك أنّ السودان لا يمكن أن يحكم مركزياً، وأنّ الأطراف القربية والنائية، لا بد أن تأخذ حقوقها كاملة، فقسّمت البلاد إلى تسعة ولايات، ثمّ إلى ست وعشرين ولاية، وأعطت كل ولاية صلاحيات الحكم في مستوياته البرلمانية "التشريعيّة والرقابيّة" وفي مستويات الحكم الفعلي التنفيذي، عبر مجالس وزراء ومعتمديات ووحدات إداريّة أصغر، كل ذلك ليمارس أبناء الشعب حكم أنفسهم، وليكونوا لصيقين بأهلهم، وليواجهوا قضايا التنمية المؤجلة منذ فجر الاستقلال، وبرغم شنشنة الشانئين، وطنطنة الناقدين، إلا أنّ الأيام أثبتت سلامة الرؤية وصواب المنهج.
(ج) في ميدان الاقتصاد، بعد أن كانت السمة الواضحة والثابتة هى الركود والجمود والنمو الاقتصادي بالسالب "3,2%" ويعتمد بنسبة 80% على المعونة والتمويل بالعجز، ويفتقد للعملات الأجنبيّة مما أدى لانعدام الثقة وعدم قبول التعهدات الصادرة من البنوك السودانيّة، وعمل التضخّم مع الكساد على تزييف الحياة الاقتصاديّة، فلم تكن الأرقام تعبّر عن واقع الاقتصاد المتدهور للبلاد، أثبتت أطقم الإصلاح الاقتصادي بالمؤتمر الوطني قدرات واضحة، وشجاعة فائقة، منذ الأسابيع الأولى "المؤتمر الاقتصادي الأول في أكتوبر 1989م" واستطاعت أن تشخّص الأدواء بوضوح وصراحة، وتقدّم الدواء بعمليّة وشجاعة، فصارحت الشعب الذي امتلأ بها ثقة، وبادلهم الصبر صبراً والإخلاص إخلاصاً، لوم يكترث لخطاب المعارضة التي يعرفها ويعرف حقيقة إسهامها السلبي حين كانت على سدّة الحكم، فصبر ليعبر به هذا الكادر المقتدر،.. وبحمد الله، استطاعت المعالجات أن تثبت نجاحاتها، من إلغاء احتكار الدولة للحياة الاقتصاديّة، وتطبيق الخصخصة بصورة علميّة مدروسة – زايد المزايدون بالإشاعات وأثبتت نجاحها – ومراجعة كافة السياسات الاقتصاديّة والماليّة، ومعالجة الاختلال الاقتصادي الذي لازم البلاد في الادخار والاستثمار، والصادرات والواردات والإيرادات العامة والإنفاق، ومعادلة العرض والطلب، والاستقطاب الداخلي والخارجي، ومراجعة القوانين الماليّة والمحاسبيّة، وقوانين الاستثمار، وبعد مرحلة المعالجة الشاقة في "البرنامج الثلاثي للإنقاذ الاقتصادي" بدأت السياسات الاقتصاديّة بمجهودات صادقة تؤتي أكلها في المراحل التالية، فتحوّل الاقتصاد من السالب إلى النمو المستدام –والحمد لله- وأصبح يعتمد على الموارد الذاتيّة في تمويل الموازنة وتغطية احتياجات البلاد، وانتفت السوق الموازية الضارة "السوق السوداء" وتحققت الوفرة، حيث راد العرض ولبى حاجه الطلب، فانتفت –بحمد الله- صفوف الذل والإذلال والمسغبة، وأصبح السودان –بحمد الله- دولة نفطيّة بصدق وعزيمة وإخلاص هذا الكادر، الذي استطاع أن يقتحم الصعاب ويقبل التحدي، بإنشاء أكبر خط أنابيب طوله 1610 كيلومترا خلال زمن قياسي (11 شهراً) ليتم التكرير والتصدير للنفط السوداني، وكان هذا حلماً بعيداً للشعب الصابر المغلوب على أمره، وزادت المساحة المزروعة ضعف ماكانت عليه طيلة سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال، من 19 مليون فدان إلى أكثر من 41 مليون فدان – دون أن تحسب الزيادات في توجه النفرة الزراعيّة الأخيرة – وأصبحت مساهمة القطاع الزراعي في الناتج القومي حوالي 40% ومساهمة القطاع الصناعي بعد دخول النفط حوالي 27%، وتضاعف الإنتاج في الكهرباء أضعاف ما أنتج طيلة سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال، من أقل من 400 ميقواط إلى أكثر من 800 ميقواط، والعمل يجري حالياً في محطّة كوستي (500 ميقواط) ومحطّة الفولة (500 ميقواط) ومحطّة محمود شريف (200ميقواط)، ومحطّة (قِّري) وسيدخل سد مروي وحده (1250 ميقواط) إن شاء الله، فضلاً عن 10 سدود أخرى انعقد العزم على إنشائها بمشيئة الله تعالى، وارتفع متوسط دخل الفرد أكثر من خمسة أضعاف ما كان عليه، من حوالي 200 دولار قبل الإنقاذ إلى ما يفوق ال1000 دولار، وارتفع حجم الموازنة من 800 مليون دولار في عام 1989م (650 مليون دولار معونة خارجيّة) إلى أكثر من 13 مليار دولار، واستقرّ الاقتصاد السوداني معافى، بعد الركود والجمود والنمو السالب "3,2% تحت الصفر" استقرّ على نمو متوسط وصل 10% "بفضل الله، ورحمته، وبنجاح وصبر وشجاعة وقدرة الكادر الذي بذل جهوداً مخلصة في هذا الجانب المهم" فاستقامت علاقات صحيحة مع مؤسسات التمويل الدوليّة والصناديق العربيّة، واستطاع الاقتصاد السوداني أن يستقطب مليارات الدولارات بصورة لفتت انتباه المؤسسات المراقبة والمحايدة والشامتة معاً، فظلّ مابين ثالث ورابع دولة عربيّة في الجذب الاستثماري والحمد لله.
(د) في ميدان التنمية استطاع المؤتمر –بنصر الله تعالى وبما فيه من كادر وماله من خبرة وقدرة- أن يوظّف هذه النجاحات الاقتصاديّة لصالح التنمية، فأُنشئت 26 جامعة و30 كليّة علميّة ومعهداً عالياً، بدلاً عن 4 جامعات فقط قبل الإنقاذ، وأصبحت الجامعات السودانية تستوعب أكثر من 140 ألف طالباً، بدلاً عن 8 آلاف طالب فقط قبل الإنقاذ، وهكذا نجحت ثورة التعليم العالي التي بدأت منذ بدايتها تستكمل نواقصها وتستوعب آلاف الطلاب الذين كانت ترمي بهم سنوات التيه في خانة الفاقد وفي أحضان الجهل، ودبّت الروح في كثير من المصانع المتعطّلة منذ سنوات عديدة، وقامت مصانع جديدة، وأخرى سيتدفق إنتاجها الغزير خلال أشهر "أسمنت مثلاً" وأنشئت الجسور وعبّدت الطرق، وتضاعف إجمالي الطرق المعبّدة ضعف ما كانت عليه منذ فجر الاستقلال (من 2436 كيلزمترا قبل الانقاذ إلى أكثر من 7 آلاف كيلومتر) وفي الخرطوم وحدها أنشئت مجموعة من الكباري المهمّة (كبري الجريف المنشيّة) (كبري المك نمر) (كبري توتي) والعمل جارٍ في (كبري الحلفاية الحتانة) و(كبري العزوزاب) وذلك بالتزامن مع المطار الدولي الجديد بأحدث المواصفات الفنية والمعماريّة، وتمددت التنمية للريف المغلوب المتباكى عليه كذباً وزوراً باسم التهميش، فأصبح لأول مرة يرى المنشآت التعليمية والصحيّة والخدميّة ويتمتّع بالكهرباء، وتصله الطرق. وفي مجال الدفاع، استطاعت تجربة المؤتمر أن تقفز بتطوير قدرات القوات المسلّحة الصابرة، أكثر من مائة ضعف عمّا كانت عليه، ولأول مرة تكتفي البلاد في احتياجاتها الدفاعية، من ملبوسات الجيش، إلى احتياجات التسلح، من زخائر ورشاشات ومدافع ودبابات ووقود الطائرات، كلّها صناعة سودانيّة خالصة، حتى مجال صناعة الطائرات، دخلته تجربة المؤتمر واستطاعت أن تنجز صناعة طائرات بدون طيّار، وستنجز مصانع "الأبابيل" الطائرات وتمّدها حقاً مستحقاً لهذه المؤسسة المهمّة التي أهملتها سنوات التيه وجعلتها تجابه مصائرها القاسية في نكران وإهمال وجحود وتخبّط إداري. كما قامت ضمن النهضة التنمويّة، وحدة جبّارة للسدود، تحمل العزيمة والتوكّل، فاستطاعت أن تنجز المعجزة في الريف وفي السودان كلّه، بإنشاء سد مروي، الذي سيعطي خيره وفيضه لكل السودان ولجواره كذلك، بتكلفة تقارب ملياري دولار، وفي مجال الخدمة التنمويّة والإسكان، استطاعت تجربة المؤتمر الوطني –بحمد الله وفضله- أن تنجز حلاً شاملاً لكل مشكلة الإسكان المؤجّلة، فنفذت خططاً إسكانية تراكم عليها الغبار منذ ما بعد الاستقلال، وضاعفت الخطط الإسكانية بأكثر من عشرة أضعاف، وفي ذات المنحى، استطاعت أن تجذب الاستثمار العربي في المجال العمراني، فتدفق الاستثمار الإماراتي في "واحة الخرطوم" التي اكتملت والحمد لله بعد تعثّر في التمويل، لتمثّل وجهاّ عمرانياً جديداً للخرطوم، كما انتهت الدراسات وبدأت مراحل تنفيذ مشروع المقرن "السنط" الذي سيغيّر من العمران البائس في العاصمة ويُعطي منظراً جمالياً مدهشاً على شواطئ الخرطوم، كما تمّ التعاقد مع الجانب القطري للاستثمار العمراني على شاطئ الخرطوم بحري، كما شرعت شركة كويتيّة في إنشاء مدينة النور على شواطئ أمدرمان بتكلفة مليار دولار.. فضلاً عن مشروع الإسكان والإعمار الذي رصدت له الدولة أيضاً مليار دولار.. كما أُنشئت مدينة صناعيّة لصناعة السيارات والجرارات بكافة الأشكال، بما يشبه الحلم، وتدفق إنتاجها، فقفزت الصناعة السودانيّة لأول مرّة مثل هذه القفزات الكبيرة، ففي لحظة واحدة استعرض رئيس البلاد ورمز هذا التغيير حوالي 3000 جراراً زراعياً صنع في السودان ضمن انطلاقة النفرة الزراعيّة المعلنة مؤخراً،.. وهكذا يصعب حصر المنجزات في مجالات التنمية والخدمات التنموية.
نضج ورشد سياسي
المراقب المنصف الحصيف، لا يملك غير التسليم بالنضج والرشد الذي تحلّى به المؤتمر الوطني في تجربته، رآه الناس يرسل أتيام التفاوض في عواصم الدنيا المختلفة، يستجدي خصومه لكمة سواء، والخصوم، من فرط طيشهم وغرورهم، يظنون أنّ ذلك ضعفاً، وكان المؤتمر ولا يزال قوياً، كان يفاوض من باب المسؤوليّة، ولم يشاهد المراقب المنصف الحصيف تجارباً مماثلة في استجداء الخصوم كما فعل المؤتمر، ولم ير حزباً حاكماً يستلطف ويستميل المتمردين عليه كما فعل المؤتمر الوطني، في ذات الوقت الذي يواجههم فيه في الميدان بشجاعة عزّ مثيلها إلا في التاريخ الإسلامي القديم.. ولم يشاهد المراقب المنصف الحصيف، حزباً حاكماً يترك نصف كراسي الحكم قبل صناديق الاقتراع، اللهم إلا تجربة سوار الذهب الذي تركها كاملةً وفق منطق آخر وظروف مختلفة، ولم ير رجلاً في الحكم يغادر كرسيه ليجلس عليه خصمه كما فعل الأستاذان مهدي إبراهيم وعلي عثمان محمّد طه!! وبعد أن صبر المؤتمر الوطني على مراوغة خصومه، استطاع –عبر أتيامه التفاوضيّة- أن يأتي بهم جميعاً إلى الداخل، عبر اتفاقات مختلفة، ثمّ صبر وصابر على أذاهم وعدائهم بالداخل، وظلّ يطوف عليهم جميعاً بالحسنى، في حوارات كثيفة لخلق روح بنّاءة رشيدة، ولخلق مشترك وطني، وقد قطع –والحمد لله- شوطاً كبيراً لتعزيز لغة الحوار وتغليبها وتثبيتها، لأنّ البلاد تستقبل مرحلة جديدة، ينبغي أن يسود فيها التسليم بأسس مشتركة ومنطلقات وطنيّة موحّدة، ولن يكون ذلك إلا بالتراضي السياسي، وهكذا يحمد له هذا الرشد في المسلك والممارسة.
وسطيّة واعتدال
ولأنه وريث حركة إسلاميّة ناضجة واعية خاطبت القضايا المعاصرة منذ وقت مبكّر، لأنّه كذلك، استطاع المؤتمر الوطني أن يقدّم تجربة حكم إسلامي مرنة، فائقة المرونة، متصالحة مع قيم الشعب وعقيدته ووجدانه الحضاري، فلم تأتي عليه بلغة المعلّم أو بسياطة المحتسبين، أنّما عملت على نفض الغبار وتبني الشعارات وترك التطبيق مشتركاً، ترغبياً لا ترهبياً، وهذا جعل الخصوم يتهكمون عن ماهيّة المشروع الحضاري الذي تطلقه الدولة، متغافلين عن عمد، الطفرة الهائلة التي حدثت في تجديد الإرث الحضاري للأمّة، واستلهام نهضتها عبره، وشمولية الطرح الإسلامي الذي تبثّه التجربة، من تعظيم الشعائر إلى إشاعة التكافل، فقد تضاعفت أعداد المساجد أضعافاً مضاعفة، وتضاعفت معها صفوف المصلين والمساجد والزوايا، في الميادين وأماكن العمل في المؤسسات والشركات والوزارات، وأُشيع صيام التطوّع والإقبال على المنهج والإفطارات الجماعيّة، وقد قامت مئات الجمعيات للقرآن الكريم تقود النشاط التربوي والروحي في المجتمع بكافة قطاعاته وفصائله، وفي الزكاة قدّمت الدولة تجربة فريدة غير مسبوقة على الإطلاق في القرون العشرة الأخيرة، وقد قامت مؤسسة عملاقة، يشرف عليها المجلس الأعلى لأمناء الزكاة، الذي يتكون من خبرات وتخصصات فقهية واجتماعية متنوعة، يجتمع كل ثلاثة أشهر، يراقب الأداء ويعالج الأخطاء، فقامت تجربة عملاقة بحق، تمت فيها كفالة آلاف الأسر وتمت فيها إعالة آلاف الأرامل والعجزة والأيتام، وهي تجربة موثّقة ليس من مجال للمزايدة عليها، فيها تسليم لآلاف المشاريع المنتجة، تتحوّل فيها الأسر من الفقر إلى الغنى، وهي تجربة تجد الإشادة والثناء في كل مناسبات ومؤتمرات العالم الإسلامي. ثمّ يأتي من يقل لك: أين هو المشروع الحضاري؟ وحسناً فعلت التجربة وهي تقدّم المرونة والوسيطة والاعتدال، فلم تشهر السياط والتخويف لفرض المظهر الإسلامي أو إجبار الناس على الصلوات وغيرها، ولم تنتهج إشاعة التحريم في المختلف في تحريمه، مثل الفنون وغيرها، كما اعتمدت منهج الرسول صلى الله عليه وسلّم في تحرير المرأة وإنصافها وإعطائها حقوقها، بعكس ماساد باسم الدين في تحجيمه اوحرمانها، وكل ذلك بدل أن يجعل الخصوم يعترفون ويقرون بفضل الحركة الإسلامية في تقديم رؤية إسلاميّة حضارية معتدلة قابلة للتطبيق، عبر المؤتمر الوطني، جعلوا يكيلون لها السباب بوعي وبغير وعي، ولكن السب والشتم –أسلوب العاجزين- لا يثني أو يغيّر منهج الواثقين.
إشراقات لا يقدّمها إلا المؤتمر الوطني
لا تزال الثورة المهدّية ملهمة بتفاصيلها وأدبياتها وسياقاتها المختلفة مخيلة الشعب السوداني، قادها رجل، التف حوله الناس، من أقصاها إلى أقصاها، استطاع أن يصنع معجزة في توحيد الناس وتحقيق الانتصار، ولم يأت ما يشابه هذه التجربة إلا في تجربة المؤتمر الوطني، حيث استطاع أن يوظّف هذا الإرث الذي يفخر به الشعب، واستطاع أن يجابه به مشكلة معقّدة، في واجهتها أبناء الوطن الواحد، ومن خلفها كل جبروت وطغيان ولوبيات العالم الغربي المعاصر!! عدّةً وعتاداً، ولم يكن المؤسسة العسكريّة المتهالكة بالإهمال والنسيان من قدرة ولا حيلة، استطاعت الإنقاذ، أن تستخرج هذا الإرث العظيم وهذا المكنون الصادق، الذي يطابق صدقاً في أفئدة القادة أصحاب التغيير، فالتقى الصدق بالصدق، وصنع التلاقي ملاحم مبهرة، رأى الناس الأمهات يودّعن أبنائهنّ بالزغرودة، ويستقبلن نبأ استشهاد أبنائهنّ بالتهليل والتكبير والتحميد، تدفقت الجموع المتقاطرة، طوعاً وصدقاً وشجاعة، وهو ما لم يكن يخطر ببال، وهو ما لم يمكن حدوثه إلا بالقيادة الصادقة ذات التجربة المخلصة الراشدة.. رأينا الطلاب والمزارعين والرعاة والقبائل والوزراء والمسؤولين، كلّهم يلبون نداء الله والوطن، بتجرّد عزّ مثيله، لقد كانت ملاحم نادرة، ترجمت وملأت الشعار الأجوف الذي كان يملأه الكذب السياسي حين تطلق الاحزاب هتافها "شعب واحد جيش واحد" لم ير الناس وزيراً يقال من وزارته ويعين في مؤسسة كانت تتبع لوزارته فيوافق كما فعل الدكتور محمد أحمد عمر، ولم يرى الناس وزيراً مقاتلاً متطوعاً كما فعل الشهيد محمد أحمد عمر والشهيد دكتور محمود شريف، والدكتور أحمد البشير الحسن والدكتور مصطفى الطيّب والقائمة الطويلة التي يتربّع فيها الشهيد الزبير والشهيد إبراهيم شمس الدين وبقيّة المخلصين.
متبوع لا تابع
أثبت المؤتمر الوطني –بكوادره المقتدره وتراكم الخبرة والمؤسسية فيه- أنّه حزب متبوع لا تابع، قائد لا منقاد، يترك مساحة واسعة لخصومه يقتاتون من خطاياه وأخطائه، ليس في يدهم شئ يفعلونه، وليس عندهم ما يقولونه، وليس لهم القدرة على الفعل، فقد جرّبهم الناس واختبروا قدراتهم، وأن من عجزوا عن حل مشكلاتهم التنظيميّة (بعض الأحزاب لم تعقد مؤتمراتها العامة لأكثر من 40 سنة!!) هم أعجز عن ممارسة الديمقراطيّة المدّعاة، وأنّ من عجزوا عن تخطيط حي عشوائي في قلب العاصمة، هم أعجز عن تخطيط وهيكلة الاقتصاد وتنمية البلاد، كما أنّ سنوات حكم المؤتمر كشفت زيف وطنيّتهم، وكذب إخلاصهم لوطنهم، رآهم الناس يتنقلون من استجداء خارجي لاستجداء خارجي أكثر وقاحة وأبلغ في القبح والذنب والخطيئة، فأمين التجمّع المعارض هو من دلّ على ضرب مصنع الأدوية، بل وطالب بضرب قلعة صناعة السيارات، مفخرة الصناعة السودانيّة!! ورآهم الناس يرسلون عناصرهم من معسكراتهم ينهبون طريق الخرطوم بورتسودان، يوقفون البصات ويجبرون الركّاب على تسليم ممتلكاتهم!! ورآهم الناس يرسلون عناصرهم من معسكراتهم يخربون أنبوب الصادر من النفط السوداني!! وحين فشل الأجنبي بكل جبروته، وفشلوا هم بأفعالهم المراهقة والصبيانيّة، انكبوا يستثمرون سماحة النظام، والقدر الكبير من الحريات المكفولة، فانكبوا يسودون الصحف، بكل منقصة في المؤتمر، وبكل مسلبة، بالحق وبالباطل، فكشفوا عن قصور همّتهم، وضحالة فكرهم، وكساد بضاعتهم، فليس لهم من فعل أو برنامج، إنما الفعل والبرامج للمؤتمر، أمّا هُم، فعليهم فقط التعليق السالب، في حال الخطأ وفي حال الصواب، ثمّ انكبوا في محاور أخرى، يؤلبون ضد التنمية، في سد مروي وفي سد كجبار، وستثبت الأيام القادمة وتؤكد صدق ما أثبتته سابقاً، من خوائهم الفكري وطيشهم السياسي، وقد أثبت المؤتمر فعلياً، أنّه لا يشغل نفسه بالسيل الأسود من النقد والشتم الذي يتعرّض له، وبرغم الكم الكبير من الكادر الإعلامي المؤهل، إلا أنّ المؤتمر أثبت أنّه منشغل بالفعل لا بردود الأفعال، وأنّه حزب متبوع لا تابع، وقائد لا منقاد، وأنّه يبني رصيده الشعبي من خلال الممارسة، ومن خلال العمل والتصاقه بالجماهير، لا من خلال الشتم أو الشتم المضاد.
مؤشرات الفرز السياسي
تعتبر المرحلة المقبلة على أرض العمل العام، مرحلة خصبة، حبلى بالنتائج والمفاجآت، في العمل السياسي على وجه التحديد، فقد حدثت في السنوات الماضية متغيرات عديدة، غيّرت من خريطة الولاءات السياسيّة، وانحسر –لأسباب داخليّة وعالميّة- المد الأيدلوجي، ولأسباب متداخلة –أهمها زيادة الوعي- زهدت الجماهير في التمحور حول الزعامات الاجتماعيّة، ولأسباب أخرى –عمليّة- أحدثت تجربة الحكم الحاليّة "الإنقاذ" تحوّلت جذريّة في خريطة التعاطي الثقافي والفرز الحضاري، ذلك حينما جعلت –التجربة الحاليّة- القضايا كلها في محك الاختبار، في الاقتصاد والتنمية والحرب والسلام والفدراليّة والعمران وقضايا الشباب والمرأة والتعليم، وقضايا الإستراتيجية والنظر المستقبلي، ما من شئ وإلا ووضعته الإنقاذ في محك التساؤل والإجابة، فأعطت إجابات كثيفة شافية لمعظم –إن لم نقل كل- قضايا السودان التي كانت مؤجلة، وكل هذا –بلا شك- عمل على تغيير الخريطة الساسيّة بشكل كبير جداً، وكل هذا –بكل تأكيد- سيجعل المؤتمر في المرحلة المقبلة سيّداً في خيارات الفرز لدى شعب ظلّ يتفاعل معه ويبادله السند والعضد.
عبقريّة الفكرة وفلسفة الانتماء
بعد أن انحسار المد الأيدولوجي يميناً ويساراً، وبعد أن زهد الكثيرون في أحزابهم وتنظيماتهم، وبعد أن أثبتت فكرة المؤتمر الوطني نجاحها كمنطقة وسط تعالج حالة (توهان الولاء السياسي) أصبح حريّاً بمن يتململ في حزبه أو لم يجد ما يغريه في الأحزاب الأخرى، أن ينضم لحزب اختبرته التجربة فأثبت كفاءة وقدرة ونجاحاً، استطاع أن يقدّم نجاحاته بتفوق في الاقتصاد الذي أصبح رائداً بعد أن كان مشلولاً!! وفي التنمية التي أصبحت متمددة شاهقة البنيان بعد أن كانت تقليديّة شحيحة أو معدومة!! وفي الصناعة التي أصبحت فخراً وتطوراً وقفزاً في سمائها البعيد، في النفط وفي صناعة السيارات والطائرات، بعد أن كانت مجرّد أماني وأحلام!! وغير هذه الميادين في التعليم والصحّة والطرق والجسور والسدود وغيرها، فإن الفكرة نفسها تعتبر إنجازاً قائماً بذاته.. نائب رئيس المؤتمر من جنوب السودان، يعتنق دين آخر غير دين رئيسه.. وفي القيادة من جاء من خلفيّة يساريّة، ومن جاء بخلفيّة صوفيّة، ومن جاء بخلفيّة وسطيّة الإسلام ومن جاء بخلفيّة سلفيّة، ومن كان قائداً علمانياً أو اتحادياً، أو كان قائداً في حزب الأمّة، وهكذا، استطاعت المنطقة الوسط التي أنشأها المؤتمر في الولاء السياسي أن تنصهر فيها مشارب فكريّة مختلفة، فالمؤتمر الوطني حزب هدفه السودان، ومنهجه الرشد والاعتدال والمرونة، وغايته التنمية في كل المناحي.. قياداته وكوادره وعضويّته، من مشارب فكريّة وقبليّة وجغرافيّة مختلفة.. وهذا هو سر الإقبال عليه، فالأيدلوجيات قد ولّي زمانها، كما أنّ الانتماء للبيوت أو الزعامات الاجتماعيّة، ماعاد مقنعاً مع ازدياد العلم والوعي..
إذن بالمؤتمر الوطني هو ملك الجماعير بشتى مشاربها ومنطلقاتها، هو يدُ الشعب، ومفخرته، ومن الواجب أن نشكر فصائل وطنيّة مقدّرة، لم تستطيع مباركة عشوائيّة تنظيماتها وتسلّط قياداتها وتخبّط سياساتها، فاستجابت لنداء الحكمة وواجب الوطن، فبدأت تحالفاتها مع المؤتمر منذ منتصف التسعينيات، فبذلت جهوداً مخلصةً وشاركت المؤتمر في أعمال التنمية وبناء التحوّل الديمقراطي. كما أنّ الواجب يقتضي كذلك أن نشكر الحركة الإسلامية التي أهدت التاريخ السياسي هذا الحزب العبقري العملاق ليكون ملكاً للجميع.