تستقيم كثير من الأمور عندما تدرك عفواً أن مداخل الشخصية ما هي إلا دروب مضيئة للوصول أو أمكنة مترعة بالسهل والبسيط والذي يعتريك دائماً هو عكس ما تجده حيث إنك تملأ مخيلتك بالأفكار المعقدة التي غالباً ما تحتاج إلى صبر جميل،
ولكن سرعان ما يتلاشى عندك ذلك الإحساس وينهزم الشعور وتنجلي غمامات الحذر عندما تجد أن الرجل مكان الحديث ماهو إلا شخصية أخذت من الريف بساطته، ومن العامة سماحة الطباع وعفوية التعامل والحوار رجل عرفه الناس يقدم أوقات فراغه لتكون نصيباً للغُبش يجلس إليهم بين جداول المياه، وأحواض الزراعة (يقرع) ويحفر ويتحدث إليهم يرتدي زياً سودانياً خالصاً وبينه ومن هم حوله أبواب لا تعرف أن تكون أبداً مؤصدة عليه، كان لابد أن يكرمه الناس بحبهم في كرنفالات تحكي عن الكرماء ببلادي، الذين لا يبخلون على الناس بالأنس والاحترام والتواضع، حتى تهزم عند الكل أساطير الحكي الذي تروج إلى الحواجز والفوارق بين الناس عندها يكون الزبير بشير طه رجل يستحق أن نقف على حياته.
لا تستطيع أن تشغل مخيلتك بالأفكار والتساؤلات عن مسيرة رجل مليئة بالتواضع وحب الدين والعلم فتاريخه يحكي عن أنه حفيد لعجيب (المانجُلك) الذي هو جده السابع فهو ينتمي إلى قبيلة العبدلاب، وكان أهله وجدوده من الذين يحبون الحل والترحال عبر البحر، عندما يقترن الشخص بالبحر ويعيش فيه لسنوات كان الأجداد يقولون إنه يورث الكرم والسخاء، فقد كانوا يسافرون عبره إلى عدد من الولايات منها النيل الأزرق والجنوب والكرمك يحملون السفن بالبضائع وهذا يعني أن التجارة هي مهنتهم الأولى فجده طه نشأ وتربى بين مناطق العجيجة وأم درمان تحديداً في بيت المال أما والدة الزبير فهي سلالة شيوخ فوالدها هو الفكي إبراهيم الرجل الذي ترجع جذوره الى مناطق (ودبانقا) و(سلوه) جنوب المتمة وكان الفكي إبراهيم هو من علّم الشيخ دفع الله رجل أم درمان القرآن الكريم فقد كان الشيخ أرسل له (مرسالا) طالباً منه الحضور لكي يتعلم على يده القرآن، أما عن مولد وطفولة الرجل فقد ولد ونشأ وترعرع بمنطقة جزيرة الفيل بمدينة ود مدني حيث تزوج الجد طه من دنقلاوية هي آمنه بت بشير التي أنجبت بشير والد الزبير والذي كان من أوائل المزارعين بود مدني، فهو من قام مع رفاقه بتشجير مدينة ود مدني وتزوج الرجل وأنجب أربعة أبناء هم طه وإبراهيم ونصر الدين ولهم شقيقة واحدة علماً بأن لهم عدد من الأخوات من جهة الأب ولهم عدد من الأحفاد.
الناجحة (زوزاية)
الزبير ولد في العام 1946 وعاش طفولته لعباً ولهواً في شوارع (جزيرة الفيل) وهنا يحكي شقيقه الأكبر نصر الدين قائلاً إن الزبير كان طفلاً ذكياً نشطاً يحب الحركة لدرجة بعيدة، يلعب مع أقرانه وتجده دائماً أولهم في كل شيء حتى في الجري كان دائماً يسبقهم. كما أنه كان طفلاً متفوقاً يهتم بدروسه وواجباته المدرسية، هذا يعني أنه ومنذ صغره كان الناس يرون فيه رجلاً يحكي واقعه عن مستقبل زاهر كانت تسهل قراءة صفحاته ومداخله. ويعود نصر الدين بالحديث إلى أنه وعندما كان يعمل في مجال الميكانيكا كان الزبير يقضي عطلته المدرسية في مناطق البحر والزراعة، وكان الوالد قد طلب مني أن آخذ بالولد إلى الميكانيكا والورش وبالفعل كان يشاركني العمل، كمساعد مكنيكي و تميز بذكائه في العمل وفي الدراسة كان دائماً يحرز مراكز مشرفة وينال الجوائز القيمة. وعن انتمائه للحركة الإسلامية يقول إن هنالك قصة وهو وبحسب ما قلت إنه كان من المشاغبين، فكان أن اعترك ذات مرة مع رجال من أصحاب البنية القوية وضربهم وهرب وكانوا يطاردونه وفي أثناء المطاردة وجد حلقة ذكر فجلس بين الناس حتى لا يراه الرجال وبدأ يستمع للقرآن، ومنذ ذلك الوقت تغيّرت فيه كثير من الصفات وأصبح هادئاً، بل بات يميل لقراءة الكتب الدينية وكتب الحركة الإسلامية حتى دخل إليها رويداً رويداً.
درس الزبير الأولية بمدرسة (جزيرة الفيل) والمتوسطة بالمدرسة الأميرية هذه المدرسة التي عرفت بتميزها وعراقتها فقد درس فيها الزعيم الراحل إسماعيل الأزهري. ومن ثم انتقل الزبير إلى مدرسة مدني الثانوية وبعد تفوقه ونجاحه تم قبوله في جامعة الخرطوم كلية الآداب وعرف في دور الجامعة بتفوقه وذكائه وشغبه السياسي ونشاطه الزائد فبعد أن أكمل دراسته بعث إلى انجلترا حيث نال هنالك الماجستير والدكتوراه.
حمل الشاب معه طموحاً وحلماً ومبادئ سودانية خالصة، فقد كان العلم همه وطموحه الذي دعمه بالثقة في النفس وكان له ما يرمي إليه، حيث حصل على الدكتوراه، و من ثم اختار أخت صديقه الشهيد محمود شريف كزوجة له وبالفعل تم له ما أراد، فقام أهله وهو بالخارج بإكمال مراسم الزواج وإرسال زوجته إليه في انجلترا التي قضي فيها سبع سنوات، بسبب منعه من دخول السودان بسبب انتمائه للحركة الإسلامية المعارضة لحكومة جعفر نميري في ذلك الوقت، وكان الزبير من المصنفين ضمن المعارضين الشرسين.
دواخل شغوفة بالوطن
وأنجب الزبير ثلاثة من أبنائه هناك وعاد إلى السودان بعد المصالحة واستوعبته جامعة الخرطوم كلية الآداب قسم علم النفس، ولكن سرعان ماطلبته جامعة العين بأبو ظبي وقضى فيها أكثر من خمسة أعوام. وبعد قيام الثورة كان من الطبيعي أن يعانق الرجل أهله في السودان ويرتمي في حضن أسرته التي كانت تشتاق إليه ولا تحبذ الاغتراب، بجانب كونه من الكوادر النادرة التي كان يحتاجها الوطن وعند عودته كان الجهاد في ذروته فانضم الرجل إلى صفوفه وقضى ما يقارب العامين في الجنوب، وعاد مرة أخرى إلى الخرطوم وعمل مديراً لجامعة الخرطوم ولكن رغبة الجهاد راودته من جديد فحمل حقيبته ورجع إلى الجنوب وشارك في أكثر من معركة وأصيب أكثر من مرة ويمكننا القول إن للرجل شخصية شغفت دواخلها بحب الوطن والوفاء والإخلاص قامت على أساس من الشجاعة والبسالة والصمود.
والزبير بشير طه رجل يحمل في دواخله شخصية بسيطة تحب البادية والريف له كثير من الأصدقاء المزارعين ورعاة الغنم والبقر، يلتقيهم حتى الآن ويجلس معهم في أماكن الزراعة والبحر ويسألهم عن عدد الغنم والبقر ومايذكره عندما (راحت غنماية فلان ) وغيرها من القصص التي لا يمكن أن ينساها ومازال يمارس هذه الهواية فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعامة وسعادته مرتبطة دائماً بالأماكن البسيطة والبراحات المترعة يتمرد دائماً على مساحات السلطة الضيقة التي لا تتيح للشخصية التمدد والاندياح، ولكن دائماً ما كان يكسر تلك الحواجز وينسى أنه حاكم، فمنذ أن كان وزيراً للداخلية كانت له العديد من القصص والروايات فقد حكي عنه قبلاً أنه وحينما كان وزيراً (كان قادماً من واجب عزاء بمدني وكان معه شقيقه ورجل آخر من رجال المكتب وعندما وصل الى منطقة سوبا التي كانت تعاني وقتها من اضطرابات أمنية أوقف عربته بجوار عدد من الجنود الذين كانوا يرابطون هناك وكانت الساعة الواحدة صباحاً، فنزل إليهم وسألهم عن الأحوال الأمنية وعما إذا كانوا تعشوا أم لم يتعشوا، فردوا إن الأمن مستتب ولكنهم لم يتعشوا بعد فجاء إلى العربة وطلب من الرجل الذي يرافقه أن يعطيه ما في جيبه وبالفعل أعطاه مبلغاً من المال وعاد إليهم، وقال (لو ما تعشيتوا انتو منو البتعشا)؟! ولكن كان الرد طريفاً من أخيه الذي يبدو أنه كان جائعاً فقال له (ياخوي يا الزبير السودان دا كلو ماتعشى ولو في ناس جيعانيين هم نحن ديل!) فالرجل عرف بتفقده الدائم للناس وسؤاله عنهم، أما الآن وبعد أن صار والياً للجزيرة فلازال يمارس هوايته المفضلة وهي الجلوس مع التربالة والرعاة وكبار السن ورجع الرجل إلى أصله شيخ عرب يرفض البرتوكول حتى إنه قام بتغير كثير من الأشياء خاصته كوالي للولاية وكسر كثيراً من الحواجز بينه وبين المواطنين وجعل التلاقي معهم لا يخضع لكبير عنت أو انتظار.
وعرف أيضاً بحبه للعمل والإخلاص وتنفيذ التكاليف وفي بيته ليس له سوى ساعات قليلة مع أبنائه وفي بعض المرات يتجه لمكتبه مباشرة بعد صلاة الصبح، ليعود في زمن متأخر من الليل، لذلك تجد أن الأبناء أكثر تأثراً بوالدتهم السيدة عزيزة شريف التي قامت بتربيتهم حتى دخلوا إلى الجامعات فله من الأبناء عبد الله ومصعب ومحمد بشير ومن البنات تماضر وعفراء وألاء وهدى وتزوج ثلاثة منهم، وله عدد من الأحفاد يقضي رغم زحمة الأشياء قليلاً من الزمن معهم، ففي البيت يخلع الرجل جلباب العمل ويعيش حياته بين أبنائه ومواصلة أهله وأصدقائه فكان ومازال مرتبطاً بأصدقائه وزملاء دراسته ومن الأصدقاء المقربين له بروفيسور عبد الرحيم علي والأمين الحاج ومبارك المجذوب والشهيد محمود شريف ويس عمر الإمام وصادق عبد الماجد.
وفي بيته تجد عدداً كبيراً من الناس منهم الأهل والأقارب وعدد من الطلاب من أبناء أخواته الذين يدرسون بالجامعات أو يعملون والذين يقصدون الزبير في بيته لقضاء الحاجات ليسوا كلهم من أقاربه، بل إن عدداً من الناس بمختلف سحناتهم وقبائلهم يستقبلهم بنفسه.
ومن هوايات الرجل المفضلة الإطلاع والقراءة ففي بيته مكتبة ضخمة تضم عدداً من الكتب لرموز الحركة الإسلامية وغيرها من الكتب الثقافية والدينية والعلمية، أما وجبته المفضلة فهي العصيدة بملاح (أم دقوقة)، ولا يميل الزبير كثيراً إلى الأكل الجاهز.
وللرجل جانب عاطفي تحرّكه مدائح الرسول (ص) فهو يحب أبناء البرعي وأولاد حاج الماحي، وأثناء شغل الرجل لعدة مناصب كانت تلك المدائح هي أنسه سواء في حله وترحاله. ويقول مقربين منه أن أكثر ما يغضب الرجل أن يظلم أحد فهو بار بالناس وعطوف بهم.
شغل الرجل عدداً من المناصب والوظائف الإدارية والعلمية والقيادية ومن أهم محطاته منصبه كوزير للداخلية، وشهدت الخرطوم في عهده الكثير من الأحداث الجسام استطاع وقتها أن يعيد الأمور لنصابها، أما عندما كان وزيراً للتقانة فقد حقق نجاحاً باهراً عرف المواطن العادي التقنية والتعامل معها وشهدت كليات العلوم والتقانة تطوراً ونجاحاً كبيراً، أما الآن فالرجل كوالي للجزيرة فقد ارتبط قدومه للولاية بكثير من البشريات وانخرط الرجل في وضع خططه وتنفيذ برامجه بطريقة فورية جعلت الولاية تشهد طفرة كبيرة في كثير من المجالات. بل إن الرجل أظهر زهده في المنصب ووهجه، وهو يستغني عن رجال المراسم، ووصل الأمر حد أن الزبير يحضر معه (إفطاره) من منزله، رافضاً كافة أشكال الصرف الإداري البزخي، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين من غير المعتادين على مثل هذه الأوضاع.